التكنولوجيا هي المستقبل
يشهد الاقتصاد العالمي تغيرات تكنولوجية غير مسبوقة وبوتيرة متواصلة ومتسارعة. ويرجع ذلك إلى التأثير المتزايد والشعبية الكبيرة للتكنولوجيات التحويلية مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي والحوسبة الكمية التي ستعزز بشكل كبير قدرتنا على معالجة البيانات وتحليلها.
وتؤثر موجة التغيير هذه على جميع القطاعات حيث لم يعد من الواقعي أو المناسب التفكير في التكنولوجيا باعتبارها أمرًا مستقلًا يتعلق فقط بقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وسيكون للتكنولوجيا دور فعّال في صميم عملية إعادة رسم مستقبل القطاعات الرئيسية غير النفطية في البحرين، فعلى سبيل المثال، تُعيد التكنولوجيا المالية تشكيل معالم قطاع الخدمات المالية بشكل عميق، حيث يتمتع العملاء بتجربة رقمية متكاملة، ويمهد الذكاء الاصطناعي، جنبًا إلى جنب مع الخدمات المصرفية المفتوحة، الطريق لعلاقات عملاء مخصصة بشكل أكبر من أي وقت مضى. كما يشهد قطاع الصناعات التحويلية تغيّرًا كبيرًا نتيجة للأتمتة التي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، حيث يتم رقمنه سلاسل التوريد بأكملها بطرق جديدة. وقد تم تغيير الخدمات الحكومية منذ سنوات بفضل رؤية هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، كما تم تحقيق قفزة كبيرة خلال جائحة كوفيد-19 والتي أجبرت الناس على تطوير بدائل رقمية لتقديم الخدمات التقليدية. وتستمر هذه التغييرات بعد أن أعادت تشكيل المواقف والسلوكيات بشكل جذري، كما ستجتاح التكنولوجيا بقية القطاعات بشكل مماثل.
يدور الكثير من النقاش والجدل حول مستقبل الوظائف في عالم يعتمد على التكنولوجيا بشكل متزايد. وإذا ما استرشدنا بالتاريخ، فإن قدرًا كبيرًا من القلق بشأن فقدان الوظائف يبدو في غير محله. فالاقتصادات الأكثر إنتاجية تولّد المزيد من الثروة وتخلق أنواعًا جديدة من الفرص الوظيفية. ومع ذلك، فمن شبه المؤكد أن التكنولوجيا ستعيد تشكيل طبيعة الوظائف وتجربة العمل للجميع على حد سواء. وبالتالي فإن من يأملون في التنافس لتحقيق النجاح في المستقبل يجب أن يمتازوا بمهارة استخدام التكنولوجيا.
ستكون القوى العاملة القادرة على المنافسة في السنوات والعقود القادمة من الأشخاص الأكثر براعة في مجال التكنولوجيا، بغض النظر عن القطاع الذي يرغبون في العمل فيه. ولهذا السبب، من المرجح أن تصبح المسارات المهنية للأشخاص أقل ارتباطًا بقطاعات معينة كما كان عليه الحال من قبل، وذلك نظرًا لأن العديد من الكفاءات ستكون قابلة للتطبيق والاستفادة من التكنولوجيا على جميع الأصعدة. وسيحظى الأشخاص الذين يتحلّون بالمهارات التكنولوجية بفرص أكبر للمشاركة في تحفيز المسيرة الاقتصادية، سواء كموظفين في الشركات والمؤسسات التي تعتمد على التكنولوجيا أو كأفراد أو رواد أعمال يتواصلون رقميًا مع عملاء محتملين في شتّى أنحاء العالم. كما ستفتح المهارات التكنولوجية المزيد من الأبواب، كما ستتيح للقوى العاملة المستقبلية ميزة التعامل بثقة مع موجات التغيير المستمرة. أما الإلمام بالبنى التحتية الرقمية، فسوف يمكّن الأفراد من التغلب على حالات عدم اليقين والاضطرابات التي تقترن عادةً بالابتكارات التكنولوجية المتلاحقة.
ولا شك أن هذه الاتجاهات ستترك أثرًا دائمًا على الأسلوب الذي ينبغي أن يفكر به الأفراد في تعليمهم ومهنهم. فالاختيارات المهنية التقليدية “المفضلة” للطلبة، وفي كثير من الأحيان لآبائهم أو أولياء أمرهم، تدور في الغالب حول قطاعات مثل المالية والقانون والرعاية الصحية. كما تتضمن المهن “المثالية” خيارات مثل الطب والهندسة والمحاسبة والمحاماة. وفي حين أن هذه القطاعات والفئات الوظيفية ستظل موجودة في المستقبل بلا شك، إلا أنه ستتم إعادة تشكيلها جميعًا بشكل أو بآخر بفضل التكنولوجيا، والتي ستغيّر أيضًا علاقاتها مع فئات الوظائف الأخرى. حيث ستتكفل التكنولوجيا بالعديد من المهام التي يقوم بها المهنيون في معظم القطاعات. ولن يؤدي هذا إلى إعادة تشكيل تجربة عمل الجميع فحسب، بل سيعني أيضًا أن جميع القطاعات سيكون لديها طلب متزايد على أنواع مختلفة من الخبراء في مجال التكنولوجيا.
لا يوجد شيء اسمه اليقين التام في الحياة، ولكن موجة التغيير التي تعيد تشكيل عالمنا اليوم تعني أن الاستثمار في المهارات التكنولوجية ربما يكون الخيار الأكثر أمانًا الذي يمكن للطلبة الحاليين، ــ بل وحتى العديد من المهنيين، المراهنة عليه، وسيكون لهذا آثار عديدة بالطبع. فأولًا، ستصبح المؤهلات الرسمية المتعلقة بالتكنولوجيا أكثر أهمية وقيمة من ذي قبل. وثانيًا، فإن القدرة على الاستفادة من عناصر التكنولوجيا المدمجة في أي منهج دراسي، ستصبح ذات أهمية متزايدة بفضل دورها في تعزيز القدرة على المنافسة في سوق العمل وتحقيق النجاح. وثالثًا، ونظرًا لأن التكنولوجيا تعتبر مجالًا ديناميكيًا للغاية ودائم التطوّر بوتيرة متسارعة، فإن عملية التعلم نفسها ستتغير جذريًا بشكل مطّرد. ويُقال أنه بحلول الوقت الذي يتخرج فيه طلبة مجالات تقنية المعلومات والاتصالات، سيكون نصف ما تعلموه في الجامعة قد أصبح قديمًا. ويعني هذا أن أهمية التعلم المستمر وتنمية المهارات تتزايد باستمرار، ومن المحتمل جدًا أن تتفوق في يوم من الأيام على المؤهلات التعليمية الرسمية التقليدية.
إن تبني التكنولوجيا واعتمادها كخيار وظيفي يقتضي تغيير نظرة المجتمع وافتراضاته وتوقعاته التي اعتاد عليها، وخاصة فيما يتعلق بالخيارات التقليدية المفضلة. وفي حين يصعب التخلص من العادات القديمة. وقد لا يكون التحول المطلوب في الافتراضات التقليدية أمرًا سهلًا، إلا أنه ليس بالأمر غير المسبوق. فقد شهدت العقود الأخيرة توجّه متزايد من الشباب نحو العمل في القطاع الخاص أو ريادة الأعمال بدلًا من الوظيفة التقليدية الآمنة. وعلى الرغم من صعوبة هذا التحول، إلا إنه يفتح المجال لفرص نوعية وجديدة للأفراد ليكونوا جزءًا من موجة التغيير التي تعيد تشكيل الاقتصادات الحديثة.